Afterheaderads-desktop

Afterheaderads-desktop

Afterheader-mobile

Afterheader-mobile

الاغتيال الفكري في الحرب الهجينة..تفكيك الوعي وإعادة برمجة المجتمع..كتبته/ ميمونة داهي

الحرب الهجينة التي تُشن على المغرب ليست صراعًا تقليديًا يمكن رصده بسهولة، بل هي استراتيجية متطورة تستهدف البنية الذهنية والنفسية للمجتمع، مُصممة بحيث لا تُرى مباشرة ولكن يُشعر بأثرها في كل تفاصيل الحياة اليومية. إنها حرب لا تعتمد على المواجهة الصريحة، بل تتسلل عبر شقوق الإدراك الجمعي، مستعملة أدوات تجمع بين الإعلام الموجه، والتضليل السيكولوجي، والتلاعب بالمشاعر، والتخطيط السياسي بعيد المدى. هدفها ليس فقط التشكيك في المؤسسات، بل زعزعة المعايير التي تجعل المجتمع متماسكًا، واستبدالها بفوضى فكرية تجعل الفرد غير قادر على تحديد الحقائق من الأوهام.

في جوهر هذه الحرب، هناك إعادة تشكيل ممنهجة لبيئة المعلومات التي يعتمد عليها الأفراد لفهم واقعهم. يتم التحكم في تدفق الأخبار والمعلومات، بحيث تصبح الحقيقة مُجزّأة ومُحرّفة، بينما الأكاذيب تُقدَّم كوقائع مؤكدة. التلاعب هنا لا يتم عبر الكذب الصريح فحسب، بل عبر استخدام تقنيات أكثر تعقيدًا، مثل الإغراق بالمعلومات المضللة، وإعادة تدوير القصص القديمة في سياقات جديدة، وخلق ارتباطات ذهنية بين مفاهيم متناقضة لجعل الحقيقة ذاتها محل نزاع دائم. هذه التقنيات لا تهدف فقط إلى نشر الفوضى، بل إلى خلق حالة من الإرهاق الذهني تجعل المواطن يفضل العزوف عن التفكير النقدي، ويصبح أكثر تقبّلاً للخطابات العاطفية والمهيّجة.

الذكاء الحقيقي وراء هذه الحرب يكمن في قدرتها على زراعة الشكوك تدريجيًا. تبدأ العملية بطرح أسئلة تبدو منطقية، لكنها موجهة لتفكيك المسلمات الذهنية التي تشكل أساس الثقة في الدولة والمجتمع. لماذا نثق في مؤسساتنا؟ هل التاريخ الذي تعلمناه حقيقي؟ هل كل ما نراه ونسمعه مجرد تلاعب؟ هذه الأسئلة ليست بريئة، بل هي مصممة لخلق أرضية نفسية يصبح فيها الفرد أكثر استعدادًا لتقبل السرديات البديلة، والتي غالبًا ما تكون مزيجًا من الحقائق المشوهة والتأويلات المغرضة.

هؤلاء الذين يقودون هذه الحرب لا يظهرون في صورة العدو التقليدي، بل يأتون في هيئة “المنقذ” أو “المثقف الحر” أو “الصحفي المستقل” أو “الحقوقي الشرس” الذين يقدمون أنفسهم كأشخاص يمتلكون “الحقيقة المخفية”. أسلوبهم لا يعتمد على المنطق المتماسك، بل على أسلوب “التمسكن حتى التمكن”، حيث يبدؤون بتبني مواقف محايدة، ثم تدريجيًا يرفعون مستوى الهجوم، مستغلين الأزمات العابرة كمبررات لتوجيه الرأي العام نحو فقدان الأمل في أي إصلاح داخلي.

أحد أعمدة هذه الحرب هو تحويل المعارضة السياسية من أداة إصلاح إلى أداة هدم. في المجتمعات الديمقراطية، تُعتبر المعارضة قوة تساهم في تصحيح المسار السياسي، ولكن في إطار الحرب الهجينة، يتم التلاعب بالمعارضة لتحويلها إلى منصة تهدف إلى تعميق الانقسامات، وليس تقديم بدائل قابلة للتطبيق. يتم الدفع بشخصيات محددة إلى الواجهة، ليست لأنها تملك مشاريع حقيقية، بل لأنها تمتلك القدرة على تأجيج الغضب الشعبي دون تقديم أي رؤية واضحة. المعارضة التقليدية تبني، أما هذه المعارضة المصطنعة فوظيفتها الهدم فقط.

تكتيك آخر في هذه الحرب يتمثل في استخدام “الإرهاب المعلوماتي”، حيث يتم توجيه طوفان من الأخبار السلبية والمحتوى الصادم بشكل مستمر، بحيث يشعر المواطن أن بلده في حالة انهيار دائم. حتى النجاحات تُقدم بطريقة تجعلها تبدو إما إنجازات وهمية، أو محاولات فاشلة للتغطية على كوارث أعظم. الهدف من هذا النهج هو خلق بيئة نفسية تجعل الناس يشعرون بأن أي مقاومة أو أي محاولات للإصلاح لا جدوى منها، مما يدفعهم إلى إما اللامبالاة أو التمرد الفوضوي.

الهوية الوطنية ليست مستثناة من هذه الحرب، بل هي في صلبها. يتم استهداف التاريخ الوطني عبر إعادة تفسيره وفقًا لسرديات عدائية، وتصويره على أنه سلسلة من الإخفاقات بدلًا من كونه مسيرة تطور ونضال. كما يتم اللعب على أوتار القضايا العرقية والجهوية، بحيث يُشعر كل فصيل داخل المجتمع بأنه مضطهد، وأن الحل الوحيد هو القطيعة مع الإطار الوطني المشترك.

ما يجعل هذه الحرب أخطر من الحروب التقليدية هو أن العدو فيها غير مرئي، والأسلحة المستخدمة تبدو غير مؤذية للوهلة الأولى. لكنها في الواقع تهاجم أساس الوعي الجماعي، وتحاول إعادة برمجة المجتمع ليصبح غير قادر على مقاومة التأثيرات الخارجية. ومع ذلك، فإن المغرب يمتلك أدوات فعالة لمواجهة هذه الحرب، أولها الوعي المتزايد لدى المواطنين الذين أصبحوا أكثر قدرة على التمييز بين النقد المشروع وبين التلاعب الفكري. كما أن المجتمع المغربي، رغم كل التحديات، لا يزال يحتفظ بروابطه الثقافية العميقة، وهو ما يجعل محاولات تفكيكه تصطدم بحاجز من الوعي التاريخي والروابط الاجتماعية المتماسكة.

الحرب الهجينة لا تُهزم بالردود الانفعالية، بل تحتاج إلى استراتيجية طويلة الأمد قائمة على بناء وعي نقدي قادر على فك شيفرات التضليل، وتحليل الخطابات بحس استقصائي. ليست القوة المادية وحدها هي التي تحسم المعركة، بل القدرة على قراءة السياقات، وربط الأحداث، واكتشاف الخيوط الخفية التي تربط مختلف مظاهر هذه الحرب ببعضها. من يمتلك القدرة على التفكير المستقل والتحليل الذكي، لا يمكن التلاعب به بسهولة، ولا يمكن تحويله إلى أداة في لعبة أكبر منه. وهنا يكمن التحدي الحقيقي.


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...