مدير النشر
سعيد بندردكة
للتواصل هاتفيا
+212661491292
الثابت و الفاكس
+212537375252
الإيميل
[email protected]
مدير النشر
سعيد بندردكة
للتواصل هاتفيا
+212661491292
الثابت و الفاكس
+212537375252
الإيميل
[email protected]
في المشهد الأدبي المغربي المعاصر، يبرز كتاب “منفى موغادور” (2021) للدكتور امحمد لشكر كعمل فريد يتجاوز الحدود بين الرواية التاريخية والتأمل الذاتي. يعيد المؤلف إحياء شخصية القائد حدو بن حمو الأكحل بكثافة نادرة، وهو شخصية بارزة في جمهورية الريف (1921-1926)، ورئيس الاستخبارات الأسبق ومؤسس الطيران الريفي تحت سلطة الأمير عبد الكريم.
تكمن عبقرية لشكر في قدرته على تحويل مصير فردي إلى مرآة عالمية تعكس شظايا التاريخ المغاربي. تدور أحداث القصة في عام 1948، وتغوص بنا في وعي رجل أُفرج عنه من السجن ولكن تم تحديد إقامته في مدينة الصويرة. في هذه المدينة الساحلية التي تحولت إلى سجن ذهبي، ينطلق البطل في رحلة استبطان مؤلمة، مستدعياً أشباح ماضيه المجيد ليفهم حاضره كشخص اقتُلِع من جذوره.
تُظهر البنية السردية إتقانًا متكاملًا لفن الرواية. اختار لشكر استخدام ضمير المتكلم، وهو خيار حاسم يغرس على الفور حميمية عميقة بين القارئ وهذا البطل المنكسر. تأتي البداية بأسلوب رصين ومؤثر، وتعمل كوثيقة مدنية مأساوية:
«نحن في عام 1948. أنا القائد حدو بن حمو الأكحل، المساعد السابق لوزير الشؤون الخارجية في جمهورية الريف، ومؤسس وقائد جهاز استخباراتها، ومؤسس القوات الجوية للحكومة الريفية، وطيار…»
هذه القائمة التي تبدو واقعية، تخفي مرارة عميقة. كل لقب يتم ذكره يتردد كصدى لعظمة مفقودة، مما يحوّل تعريف الذات إلى مرثاة لمُثل سياسية راحلة. يمضي المؤلف، مستندًا إلى خلفيته الطبية، بدقة سريرية: يتم توثيق التواريخ والأماكن والوظائف بعناية، ولكن هذه الدقة التاريخية تخدم مشروعًا أدبيًا أكثر طموحًا. إنها تضفي مصداقية على كلمات الراوي لشرعنة استكشاف المناطق المظلمة من ذاته المجروحة.
الصويرة ليست مجرد خلفية في هذه الرواية؛ بل تصبح شخصية بحد ذاتها، مرآة تعكس حالات البطل النفسية. يصور لشكر كتابة حسية بحدة ملحوظة، يلتقط الفروق اللانهائية لهذه المدينة الأطلسية: الهدير المستمر للأمواج على المنحدرات، الصرخات الحادة للنوارس، والضوء المتوهج الذي يغمر الواجهات البيضاء والزرقاء.
البحر، الحاضر في كل مكان، يبلور كل تناقضات حالة المنفى. تارةً هو سجان ومواساة، يرمز إلى استحالة العودة إلى الماضي المفقود بينما يوفر المساحة الذهنية اللازمة لاستحضار الذكريات. في تأملاته البحرية، يجد الراوي بشكل متناقض كلمات تحرره الداخلي:
«ظننت أن المنفى سيقرر قطع صوتي. لكن كل يوم في موغادور، خارج الجدران وراء أفق البحر، أجده – في غناء النوارس، في نظرات المارة… وأتساءل أحيانًا كيف يمكن لرجل أن يعيش لفترة طويلة في ظل قيوده الخاصة.»
يكشف هذا التأمل عن فن لشكر المتقن: تحويل القيد الجغرافي إلى حرية شعرية، وجعل السجن مرصدًا مميزًا للوضع الإنساني.
تعتمد أصالة “منفى موغادور” على التوليف البارع الذي قام به مؤلفها بين ثلاثة مقاربات متكاملة للكتابة الروائية.
مؤرخ النسيان: يستخرج لشكر صفحة غير معروفة من التاريخ المغاربي، صفحة لشخصيات بطولية محتها كتب التاريخ الرسمية. لكنه لا يكتفي بمجرد الاستعادة الواقعية. من خلال تجسيد التاريخ في شخصية من لحم ودم، يعيد لها بُعدها الإنساني المأساوي، محولاً الحادثة التاريخية إلى قصة عالمية عن مهزومي التاريخ.
كاتب الدراما الذاتية: يستعير هيكل السرد من المأساة الكلاسيكية تقدمها الحتمي. فمصير حدو بن حمو يتمحور حول سقوط مذهل، من قمة السلطة إلى عزلة المنفى. هذه البنية الدرامية، التي تتخللها ذكريات متداخلة ببراعة من يحيى يشعوي، تحافظ على تشويق مستمر، تمزج بين التوتر التاريخي والحبكة النفسية.
شاعر الكآبة: تصل لغة لشكر أحيانًا إلى جمال مؤثر. تستمد أوصافه من سجل حسي يحفز جميع حواس القارئ. التناقضات تبني خياله: المساحات المفتوحة للجبال الصعبة تقابلها عزلة موغادور؛ صخب المحارب يتبعه الصمت التأملي للمنفى. هذا الجدل بين الأضداد يولد كثافة عاطفية تحول كل صفحة إلى تجربة جمالية.
يأتي كتاب “منفى موغادور” ضمن تقليد أدبي مغاربي، من كاتب ياسين إلى محمد ديب، يستقصي العلاقات المعقدة بين الذاكرة الفردية والتاريخ الجماعي. لكن أصالة لشكر تكمن في قدرته على تجاوز مجرد السرد التاريخي للوصول إلى تأمل فلسفي في المواضيع الأبدية للوضع الإنساني: المنفى، الهوية، المقاومة في مواجهة الشدائد، والكرامة في الهزيمة.
يُظهر العمل أيضًا نضجًا أسلوبيًا لافتًا. يتقن المؤلف فن السرد بين الضوء والظلام، متناوبًا بين لحظات من الشعرية المكثفة ومقاطع من الاستبطان الرصين. هذا التعديل المستمر للنبرة يخلق إيقاعًا روائيًا ساحرًا، يشبه تلك الأمواج التي تضرب بانتظام جدران موغادور.
يُعد “منفى موغادور” بلا شك أحد أنجح إنجازات الأدب المغربي المعاصر. باختياره إعطاء صوت لشخص مهزوم في التاريخ، ينجز امحمد لشكر معجزة مزدوجة: إعادة ذاكرة مخفية والكشف، من خلال هذا المصير الفردي، عن الآليات العالمية التي يقاوم بها الفرد قوى التاريخ المدمرة.
يُقرأ هذا العمل كشهادة أدبية، لجيل رأى أحلامه في التحرر تتهاوى ولكنه يرفض الاستسلام لليأس. في تجرده من منفاه الموغادوري، يستعيد حدو بن حمو عظمة تتجاوز الظروف السياسية. وهكذا يصبح رمزًا لكل هؤلاء الرجال الذين يكتشفون في المحنة الموارد غير المتوقعة للكرامة الإنسانية.
“منفى موغادور” هو أكثر من مجرد رواية: إنه درس في المقاومة الأخلاقية، واحتفال بالذاكرة ضد النسيان، ونشيد للجمال الذي يبقى على قيد الحياة بعد كوارث التاريخ. عمل أساسي يؤكد مكانة امحمد لشكر بين أهم الأصوات في الأدب المغاربي الحالي.
يحيى يشعوي
في مكان ما على شاطئ المحيط الأطلسي
20 سبتمبر 2025