Afterheaderads-desktop

Afterheaderads-desktop

Afterheader-mobile

Afterheader-mobile

قيمة الإنسان الكونية في زمن الغطرسة

منذ فجر التاريخ والإنسان يطمح إلى أن يكتب سيرتهالذاتية، لا باعتبارها مجرد سرد لأحداث شخصية، بلكوثيقة فكرية تنقل إلى الأجيال المقبلة معنى أن تكون فردًاواعيًا في الأوقات الصعبة. وفي عصرنا الحالي، زمنيغمره التيه والتفاهة، حيث تسود الغطرسة وتُهمَّش القيم،يتضاعف هذا الطموح: أن نحول تجاربنا الفردية، بماتحمله من أفراح وأحزان، من انكسارات وانتصارات، إلىأرشيف إنساني يتجسد في نصوص ومذكرات ووسائطسمعية بصرية، تُسهم في تقاسم الوعي الجماعيوصياغة ذاكرة مشتركة.

إن الحق في السرد ليس ترفًا، بل هو حق من حقوقالإنسان؛ حق يضمن انتقال المعرفة والخبرة بين الأجيال،ويجعل من الفرد شاهدًا على عصره ومنخرطًا فيالتاريخ. فحكاية الفرد، في عمقها، ليست معزولة عنالجماعة، بل هي انعكاس لتفاعل الأنا الفردية مع الأناالجماعية، وهي محاولة لتقييم المؤسسات والتجاربالإنسانية في ضوء مقاومة التفاهة وصون الموضوعية.

من هنا، يفرض السرد الفلسفي على الأفراد مسؤوليةمضاعفة : أن يكشفوا كيف راكموا خصائص الفكروالوعي والإرادة والحرية، وكيف واجهوا القوى التيهمّشت الموضوعية والكفاءة في تدبير الشأن العام. فالتاريخ السياسي الحديث حافل بأمثلة على انزلاقالسياسة من فن شريف للحكم إلى أداة لإعادة إنتاجالأنانية والمصالح الضيقة. وفي هذا السياق، تبرز خطورةتحوّل الناخب، باعتباره جوهر الدولة والمجتمع، إلى مجردسلعة تُباع وتُشترى، فاقدة لأبعادها الأخلاقية.

تضعنا هذه المعطيات أمام إشكالية مركزية: ما قيمةالفرد في المجتمع الإنساني؟ وكيف يمكن لتفاعل الدولةوالمجتمع أن يمنح هذه القيمة أبعادها الحقيقية في خدمةالصالح العام؟“.

لقد قدّم إيمانويل كانط إجابة فلسفية جذرية حين أكد أنالإنسان ليس شيئًا، بل غاية في ذاته. فالكرامة الإنسانيةلا تُختزل في المنفعة، بل تنبع من كون الفرد كائنًا عاقلًا،واعيًا ومسؤولًا. ومع ذلك، نبّه الفيلسوف جورج غوسدورفإلى خطورة الانغلاق في فهم المبدأ الكانطي؛ إذ لايستطيع الفرد أن يعرّف ذاته بمعزل عن الآخرين، بليكتسب قيمته عبر المشاركة والعطاء والتضحية. القيمةالإنسانية، عنده، ليست ملكية منغلقة، بل عطاء متجدد فيفضاء التعايش.

ويتقاطع مع هذا الطرح إيمانويل مونييه، الذي اعتبرالشخص مصدرًا لكل القيم الأخلاقية، لا مجرد شيء بينالأشياء. فالشخصية الإنسانية، في نظره، تُبنىبالتشخصن، أي عبر الإبداع والانخراط المستمر فيالعالم. أما هيغل، فقد شدّد على أن الفرد لا يحقق قيمتهإلا من خلال مشاركته الفعّالة، والتزامه بالقوانين، وإنتاجهللمنافع التي تعزز تماسك الجماعة.

إن هذه المفارقات الفلسفية، من كانط إلى غوسدورف،ومن مونييه إلى هيغل، تكشف عن حقيقة واحدة: قيمةالفرد لا يمكن أن تُبنى إلا على أساس الوعي، والمشاركة،والتضامن. غير أن العالم المعاصر يشهد انحرافًا خطيرًا،حيث تعمل بعض القوى المتغطرسة على تكريس فكرةتشييء الإنسان، ورفع قيمة مواطنيها عبر وهمالإمبراطورية المتعالية، في مقابل تهميش باقيالشعوب. هذا المنطق لا يؤدي إلا إلى انفجار الصراعات،وتفاقم الأزمات، وتقويض إمكانيات العيش المشترك.

لقد أثبت التاريخ أن العزلة الوجودية للأفراد والمجتمعاتوهم قاتل، وأن الانغلاق والتمركز حول الذات طريق قصيرنحو الانهيار. في المقابل، لا سبيل أمام الإنسانية إلاالاعتراف بقيمة الفرد في ذاته، وتربيته على التضامن،وإطلاق طاقاته الإبداعية في إطار المبدأ الأخلاقيالحديثرابح رابح“.

خاتمة

إن العالم اليوم في مفترق طرق. فإما أن نستسلم لمنطقالغطرسة والتشييء الذي يحول الإنسان إلى أداة، وإماأن نستعيد الرشد الفلسفي الذي يضع الإنسان كغايةوكرامة غير قابلة للتصرف. وحده الاعتراف المتبادلبالقيمة الإنسانية، وتغذية روح المشاركة والتضامن، يمكنأن يمنح البشرية فرصة النجاة. فالإنسان ليس للبيع،وليس وسيلة للغير. إنه غاية، والغاية لا تُداس دون أنينهار معها معنى الوجود ذاته.


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...