Afterheaderads-desktop

Afterheaderads-desktop

Afterheader-mobile

Afterheader-mobile

بين خطاب الاستدامة وضغوط الواقع: الهيئة العامة لمصايد أسماك البحر المتوسطبين طموح الإصلاح وإكراهات اللوبيات البحرية

محمد التفراوتي

بين ضفتين تتقاسمان التاريخ والمصير، اجتمعت دول المتوسط في مدينة مالقة الإسبانية لتجديد التزاماتها تجاه مصايد الأسماك المستدامة، في إطار الدورة الثامنة والأربعين للهيئة العامة لمصايد أسماك البحر المتوسط (GFCM).

و في أجواء احتفالية جمعت 24 دولة من ضفتي المتوسط والاتحاد الأوروبي تحتمظلة منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، بدا المشهد أشبه بعرس دبلوماسي بيئي،تهيمن عليه شعاراتالتعاونوالاستدامة“.

في أجواء احتفالية اجتمعت 22 دولة من ضفتي المتوسط والاتحاد الأوروبي تحتمظلة منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، لتجديد التزامها بمصايد الأسماك المستدامةوتربية الأحياء المائية. غير أن خلف العبارات الدبلوماسية والصور الرسمية التيتبثها الهيئة العامة لمصايد أسماك البحر المتوسط (GFCM)، يختبئ واقع أكثرتعقيدا. فالمعادلة بين الاستدامة الاقتصادية والبيئية لا تزال غير متوازنة، والمصالحالوطنية والضغوط الصناعية ترسم حدودالطموح الأخضر المعلن.

غير أن الخطابات اللامعة والصور الرسمية التي غمرت المنصات لم تخف التناقضالمتزايد بين الطموح البيئي والواقع البحري المرهق. فالمتوسط، الذي كان مهداللحضارات، يواجه اليوم استنزافا بيولوجيا واقتصاديا بفعل ممارسات صيد مكثفة،وضغوط لوبيات صناعية لا تعرف سوى منطق السوق، فضلا عن الضغوط الشديدةالناجمة عن التلوث، وتغير المناخ، وفقدان المواطن الطبيعية، والسياحة المكثفة،وكثافة حركة الملاحة البحرية. وتبقى

المعادلة بين الربحية الاقتصادية والحفاظ على التوازن البيئي مختلة.

وفي هذا السياق، قال وزير الفلاحة الإسباني السيدلويس بلاناسخلالالملتقى  أندورة الهيئة العامة لمصايد أسماك البحر المتوسط ترمز إلى الاتحادبين بحرين شقيقين يتشاركان التاريخ والثقافة والحياة، وتمثل فرصة للمضي قدمًانحو مصايد أسماك وتربية أحياء مائية مستدامة.”

ودعا السيدبلاناسإلىتعزيز التعاون بين الدول لضمان مستقبل مصايدالأسماك ومجتمعات الصيد، حيث يجب أن تتضافر الربحية مع الاستدامة.”

إصلاحات على الورق أم تحولات في البحر؟

خلال الدورة الثامنة والأربعين للهيئة العامة لمصايد أسماك البحر المتوسط، تمتمناقشة خمسة عشر مقترحا، كان العديد منها يهدف إلى تعديل توصيات قائمة. وبعد أسبوع وصفه كثيرون بأنه طويل وصعب، اعتمدت الهيئة مجموعة من التدابيرالمتعلقة بالإدارة والامتثال، تضمنت تعديلات كبيرة على الخطة متعددة السنواتلمصايد الأسماك القاعية في مضيق صقلية، وخطة جديدة طويلة الأمد لصيدالصفيلح الوردي في بحر البوران، إلى جانب تحديث للإطار الإقليمي للامتثال. وشملت التعديلات الرئيسية تنفيذا تدريجيا لفئات الامتثال، ومراجعة حدود المصيدوالجهد لأنواع رئيسية مثل المرلان والجمبري الوردي العميق والصفيلح الوردي،وإدخال قواعد علمية لمراقبة المصيد، وتعزيز فترات الإغلاق الزمني، وتحديدمقاسات دنيا جديدة للأسماك، بالإضافة إلى فرض حظر دائم على الصيدالترفيهي لبعض المخزونات. وتعزز هذه التدابير مجتمعة انتقال الهيئة نحو نظامأكثر تكيفا ومرتكزا على العلم في حوكمة مصايد الأسماك.

في الظاهر، تبدو هذه الخطوات تعبيرا عن وعي متزايد بخطورة استنزاف المخزونالبحري، إلا أن الخبراء يشيرون إلى بطء تنفيذها على أرض الواقع، خاصة في ظلغياب الموارد البشرية والمالية الكافية لدى بعض الدول الأعضاء. وخاصة أن بعضهذه التوصيات لن تصبح قابلة للتطبيق إلا في عام 2027 أو حتى عام 2028. فالقرارات المتعلقة بأنظمة تتبع السفن أو بإلزامية الأرقام الدولية للمراكب، رغمرمزيتها التقنية، لا تمس جوهر المشكلة. نشاط الصيد الجائر الذي ما زال يستنزفمناطق حساسة بيئيا، خصوصا في حوض البوران والأدرياتيكي من مضيقصقلية والبحر الأدرياتيكي.

التعاون الإقليمي“… شعار أم التزام فعلي؟

من بين الإنجازات التي احتفت بها الهيئة حصول عدد من الدول، بينها المغربوالجزائر وتركيا، على تصنيفالامتثال الكامل“. لكن هذا التصنيف يثيرتساؤلات، إذ يرى بعض المراقبين أنه أقرب إلى مكافأة سياسية تعكس الامتثالالإجرائي أكثر مما تعكس النتائج البيئية الفعلية. فالتحدي الحقيقي لا يكمن فيالتقارير الدورية، بل في ضبط ممارسات الصيد القاعي والجر، التي ما زالت تثيرجدلا علميا وبيئيا حادا بسبب أضرارها على النظام الإيكولوجي البحري، وخاصةعلى طول سواحل دول شمال أفريقيا.

بينالاستزراع المستدام وتوسّع الإنتاج التجاري

تسعى الهيئة إلى تعزيز تربية الأحياء المائية المستدامة باعتبارهابديلا أخضرلتقليص الضغط على الموارد الطبيعية. غير أن بعض التقارير المستقلة ترى في هذاالتوجه تحولا نحو منطق السوق أكثر من كونه خيارا بيئيا، إذ يفتح الباب أماماستثمارات خاصة قد تزيد من التلوث الساحلي وتعمق التفاوت بين الدول الغنيةوالفقيرة في التكنولوجيا البحرية.

انضمام أوكرانيابعد سياسي في ثوب بيئي

رحبت الهيئة بانضمام أوكرانيا كعضو جديد، في خطوة توصف بأنهاتاريخية. غير أن هذا الانضمام لا يخلو من دلالات سياسية، خاصة في ظل التوتراتالجيوسياسية في البحر الأسود. فـالبيئة البحرية هنا تستخدم أيضا كورقةدبلوماسية لتوسيع النفوذ الإقليمي، أكثر من كونها ملفا تقنيا محضا.

حوكمة جديدة أم تدوير للمناصب؟

اختتم الاجتماع بالإعلان عن المكتب التنفيذي الجديد للهيئة، الذي يفترض أنيقودها نحورؤية أكثر شمولية. لكن المراقبين يشيرون إلى أن هذه التغييراتغالبا ما تبقى رمزية أكثر منها جوهرية، إذ يتواصل النفوذ المؤسسي للدول ذاتالحضور الاقتصادي القوي في قطاع الصيد، مما يضعف تمثيلية المجتمعاتالساحلية الصغيرة في صنع القرار.

نحو تقرير 2025: أي واقع خلف الأرقام؟

تعد الهيئة بإصدار تقرير شامل حولحالة مصايد الأسماك في المتوسط والبحرالأسود، يوثق التحسن في الكتلة الحيوية والإنتاج المستدام. غير أن التساؤل يظلقائما. هل تعكس هذه البيانات تحسنا حقيقيا أم مجرد تحسن في منهجياتالتقدير؟ فبين السطور، تلوح مفارقة صارخة: في الوقت الذي تتحدث فيه المنظمةعننجاحات استدامة، تتزايد أصوات العلماء والمجتمع المدني التي تحذر منإرهاق بيئي صامت ناجم عن استمرار أنشطة الصيد بالجر، والتلوث الساحلي،وضعف الرقابة في بعض الموانئ المتوسطية. لكن السؤال الجوهري يبقى: هلتعكس هذه الأرقام واقع البحر أم مجرد تحسن في منهجيات التقدير؟

إن قراءة نقدية لما دار في مؤتمر مالقة تكشف أن الاستدامة البحرية في المتوسط لاتزال مشروعا معلقا بين الطموح المؤسسي والواقع الميداني. فبين الخطاب الرسميالمفعم بالتفاؤل والحقائق العلمية التي تدق ناقوس الخطر، تبدو الهيئة العامةلمصايد الأسماك كمن يحاول الإبحار في بحر من التناقضات: بحر تحركه مصالحاقتصادية متشابكة، ولوبيات صيد قوية، ومجتمعات ساحلية تبحث عن لقمة عيشفي بيئة تتقلص فيها الموارد عاما بعد عام.

صوت من ليبياتحديات الأمن والالتزام

وأفاد فراس الجابري ممثل الهيئة العامة للثروة البحرية الليبية، في تصريح لمنصةآفاق بيئية، على هامش مشاركته في الدورة الثامنة والأربعين للهيئة العامة لمصايدأسماك البحر المتوسط (GFCM)، أن ليبيا تمتلك سجلات رسمية لسفن الصيدوتراخيص تشغيلها، مشيرا إلى أن بلاده تتعاون بشكل منتظم مع الهيئة في برامجالتدريب والمراقبة.

و قال الجابري أن الظروف الأمنية الراهنة تجعل عمليات التفتيش والمراقبة البحريةأكثر تعقيدا، رغم الجهود المستمرة لتعزيز الإشراف على أنشطة الصيد. وأكد فيالسياق ذاته أن ليبيا تشارك منذ تأسيس الهيئة في اجتماعاتها ودراساتها حولالمخزونات السمكية المشتركة، وتولي أهمية كبيرة لتوصيات المنظمة في هذا المجال. مضيفا أن  ملتقى هذا العام تميز بجمعه بين اجتماع لجنة الامتثال والاجتماعالسنوي للهيئة، مما أتاح مناقشات بناءة تناولت أبرز التحديات الراهنة التي تواجهقطاع الصيد في المنطقة. وأوضح أن الاجتماعات أسفرت عن حزمة من القراراتوالتوصيات تصب في مصلحة مصايد الأسماك في البحر المتوسط، وتهدف إلىتعزيز استدامة الموارد البحرية وتوفير مصادر دخل بديلة ومستدامة للصيادينوالمجتمعات الساحلية.

واختتم تصريحه بالتأكيد على حاجة بلاده إلى خطة دعم دولي، تشمل برامجتدريب وتزويد بالمعدات الحديثة وتطوير القدرات العلمية، بما يسهم في ملائمةالإطار الوطني مع معايير الهيئة العامة لمصايد الأسماك والمنظمة البحرية الدولية. وتسعى ليبيا الى تطوير قطاع الصيد البحري ودعم الاستدامة للحفاظ على التنوعالحيوي والمخزونات السمكية عبر خطط وبرامج بالتعاون مع الهيئة العامة لمصايداسماك البحر المتوسط.

يشار أن  دورة الهيئة العامة لمصايد أسماك البحر المتوسط تمثل لحظة حاسمة فيمسار التفكير الجماعي حول مستقبل هذا البحر المشترك، الذي يجسد وحدةالمصير البيئي والاقتصادي والاجتماعي لدوله. ومع ما تطرحه من قراراتوتوصيات، تظل الحاجة ملحة إلى تحويل الالتزامات إلى أفعال ملموسة تعيدالتوازن للمنظومة البحرية وتضمن استدامة الثروات السمكية للأجيال القادمة.

إن هذا اللقاء، بما حمله من رسائل ورؤى، يفتح الباب أمام نقاش أوسع حولالحوكمة البحرية، والتمويل الأزرق، ودور المجتمعات الساحلية في صون الموارد. وستكون هذه المحاور في صلب المتابعة والتحليل خلال المراحل المقبلة، لتقريبالسياسات من الواقع الميداني وبناء تعاون متوسطي أكثر انسجاما وعدلا.

ويذكر أن مداولات مؤتمر مالقة تكشف أن مستقبل الاستدامة البحرية في المتوسطلن يرسم بالشعارات ولا بالتوصيات وحدها، بل بقدرة الدول والمؤسسات على ترجمةالالتزامات إلى سياسات تنفيذية واقعية تراعي التوازن بين الاقتصاد والبيئةوالعدالة الاجتماعية. فالمطلوب اليوم ليس مزيدا من الخطط الورقية، بل حوكمةبحرية جديدة تجعل من الشفافية والمراقبة والمساءلة ركائز لأي إصلاح حقيقي. وحده التعاون المتوازن بين دول الشمال والجنوب، ومشاركة المجتمعات الساحليةفي صنع القرار، يمكن أن يفتح أفقا لمتوسط أكثر عدلا واستدامة، تصان فيهالثروات وتحفظ فيه ذاكرة البحر للأجيال القادمة.


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...