مدير النشر 
 سعيد بندردكة 
للتواصل هاتفيا 
 +212661491292 
 الثابت و الفاكس  
+212537375252 
 الإيميل 
[email protected]
 مدير النشر 
 سعيد بندردكة 
للتواصل هاتفيا 
 +212661491292 
 الثابت و الفاكس  
+212537375252 
 الإيميل 
[email protected]
ما قاله النائب التويزي، سواء كان صادقا أو مبالغا فيه، فتح نافذة خطيرة على واقع الدعم العمومي في المغرب. بين الحصانة والمساءلة، بين الاتهام والصمت، تبقى الحقيقة وحدها هي المخرج. أما التردد، فثمنه باهظ: ثقة مواطن تفقد، ومؤسسات تستنزف، وعدالة اجتماعية تصبح مجرد شعار.
في لحظة سياسية مشحونة، خرج النائب البرلماني أحمد التويزي، رئيس فريق حزب الأصالة والمعاصرة، بتصريح تحت قبة البرلمان وصف فيه منظومة دعم القمح والدقيق بـ«الفضيحة»، مشيرا إلى أن بعض الشركات تقدم «دقيقا مصنوعا منالورق» للفئات الهشة. كلامه أشعل الجدل داخل وخارج المؤسسة التشريعية، لأنه لم يكن مجرد رأي سياسي، بل اتهام يمس صميم الأمن الغذائي وثقة المواطن في مؤسسات الدولة.
غير أن ما قاله التويزي يضعنا أمام مفترق حاد بين الحق في النقد والمساءلة السياسية من جهة، والمسؤولية القانونية والأخلاقية للكلمة البرلمانية من جهة أخرى. فكما قال الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو: «الحرية لا تمارس دون ضوابط، وإلاتحولت إلى فوضى».
القضية كما بدت للرأي العام لا تحتمل إلا احتمالين اثنين:
إما أن يكون ما صرح به النائب غير صحيح، فيندرج ضمن منطق المزايدة السياسية، وهنا يصبح لزاما تذكير الجميع بأن الحصانة البرلمانية ليست حصانة من الأخلاق. فاتهام مؤسسات الدولة بتقديم دقيق مغشوش دون دلائل قاطعة يعد مساسا بالثقة العامة، التي وصفها ماكس فيبر بأنها «العملة الأساسية التي تقوم عليها شرعية الحكم».
أما إذا كان ما قاله صحيحا، فإننا أمام جريمة محتملة تمس المال العام وصحة المواطن. وهنا تتحول الكلمات إلى أدلة أولية تستوجب تدخل النيابة العامة للتحقيق. فالصمت في هذه الحالة ليس فضيلة، بل تواطؤ بالصمت.
في الحالتين، تبقى القضية «حامضة بزاف»، كما وصفها أحد المراقبين، لأنها تكشف خللا عميقا في العلاقة بين المسؤولية السياسية والمساءلة القانونية.
حين تحدث التويزي عن تخصيص الدولة حوالي 16.8 مليار درهم سنويا لدعم القمح والدقيق الوطني، كان يسائل بنية الدعم ذاتها: إلى من يصل هذا المال؟ ومن يضمن عدالة توزيعه؟
الجواب، كما يبدو من تصريحه، غائب في ضباب المصالح المتشابكة. فالنائب أشار إلى أن منظومة الدعم الحالية «تخدمالأغنياء والوسطاء بدل الفقراء»، داعيا إلى مراجعتها واعتماد الدعم النقدي المباشر عبر السجل الاجتماعي الموحد.
هنا يعود إلى الأذهان قول أرسطو في كتاب “السياسة”: «العدالة هي المساواة بين من يستحقون المساواة، وعدم المساواةبين من لا يستحقونها».
فإذا كانت الدولة تنفق المليارات لضمان العدالة الاجتماعية، ثم تتحول تلك الموارد إلى أرباح لأصحاب النفوذ، فذلك ليس فسادا ماليا فقط، بل انحراف في وظيفة الدولة ذاتها.
وصف “دقيق الورق” الذي أطلقه التويزي قد يكون رمزًا للتعبير عن سوء الجودة، أو إشارة حرفية إلى غش غذائي فعلي. وفي الحالتين، تبقى الصورة صادمة لأنها تضرب في عمق ما يسميه المؤرخ إدوارد غيبون في كتابه انحدار وسقوطالإمبراطورية الرومانية بـ«تآكل الثقة في المؤسسات».
فحين يشك المواطن في قوت يومه، ينهار العقد الاجتماعي الذي يربطه بالدولة.
الفضيحة إذن ليست في الدقيق وحده، بل في الرمزية التي حملها التصريح: دولة تصرف المليارات لدعم الفقراء، وبرلماني يتهمها علنا بالفساد دون أن تتحرك الحكومة لتوضح، ولا النيابة لتتحقق. إنها حلقة من الفراغ المؤسسي الذي يجعل من الكلمة سلاحا، ومن الصمت مشاركة في الجريمة.
إلى حدود اليوم، لم تصدر الحكومة أي بلاغ رسمي لتوضيح الاتهامات. لا من وزارة الفلاحة، ولا من وزارة الاقتصاد والماليةالمشرفة على صندوق المقاصة.
وهذا الصمت، وإن كان يفسر أحيانا بالحذر، إلا أنه يفتح الباب أمام الشك، ويعطي الانطباع بأن المؤسسات لا تبادر إلا بعد اشتداد الضغط الإعلامي.
يذكرنا هذا بما قاله المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي: «حين يعجز القديم عن أن يموت، ويعجز الجديد عن أن يولد، تظهرالوحوش».
وحقا، حين تغيب الشفافية، يملأ الوحش الإعلامي والسياسي الفراغ، ويتحول النقاش إلى صراع بين اتهام وصمت.
القضية اليوم أكبر من “دقيق” أو “ورق”. إنها امتحان لمصداقية الدولة في مأسسة الشفافية والمساءلة، وامتحان للأحزاب في قدرتها على تحمل مسؤولية الكلمة.
فكما قال الفيلسوف جان جاك روسو: «حين يتكلم الشعب، يجب على السلطة أن تصغي؛ لكن حين يتكلم ممثلو الشعب،يجب أن يتحروا الحقيقة قبل أن ينطقوا».
ما نحتاجه الآن ليس مزيدا من الخطابات، بل تحقيقا قضائيا وإداريا جادا يضع النقاط على الحروف. فالمجتمع الذي يخاف من كشف الحقيقة، هو مجتمع يتنازل طوعا عن مستقبله.
وصدق ابن خلدون حين قال: «الظلم مؤذن بخراب العمران».
فهل ننتظر خراب الثقة، أم نبدأ بإعمارها من جديد عبر الحقيقة؟
