مدير النشر
سعيد بندردكة
للتواصل هاتفيا
+212661491292
الثابت و الفاكس
+212537375252
الإيميل
[email protected]
مدير النشر
سعيد بندردكة
للتواصل هاتفيا
+212661491292
الثابت و الفاكس
+212537375252
الإيميل
[email protected]
الحسين بوخرطة
في مقالتي السابقة حول “قيمة الإنسان الكونية في زمنالغطرسة“، أوضحتُ كيف استقر في مسار التفكير الفلسفيالحديث استنتاج جوهري مدعوم ببراهين عقلانية، مفاده أن قيمةالإنسان تكمن في كونه غاية في ذاته، لا مجرد وسيلة، وأن هذهالقيمة تُبنى على الوعي والمشاركة والتضامن. وقد دعوت آنذاكإلى استنهاض الهمم من جديد لرفع الشعار النضالي الإنسانيالرافض لمنطق الغطرسة الذي يُشيِّئ الإنسان، مؤكدًا أن الاعترافالمتبادل بالقيمة الإنسانية واستعادة الرشد الفلسفي هما السبيللجعل الإنسان كائنًا له كرامة غير قابلة للتصرّف، بما يضمنللبشرية النجاة في مواجهة التحديات المعاصرة.
لقد برزت عبر العالم اعترافات فكرية متزايدة بضرورة جعل الفردفاعلًا منتجًا داخل أمته، وربط هذا الهدف بالإرادة السياسيةللدولة، بحيث يتصدّر سلم أولوياتها وشعاراتها وبرامجها. فلم يعدمقبولًا بعد اليوم إغفال حقيقة أن تقوية هوية الفرد معطى جوهريفي حياة الشعوب، وأنها لا تنفصل عن ترسيخ ملكة التفكيرالعقلاني كما صاغها ديكارت. وهكذا أضحى واضحًا أن الدولة،باعتبارها الجهاز المؤسساتي المدبّر لحياة الأفراد والجماعات فينطاق زمني وجغرافي محدّد، تتحمّل مسؤولية كاملة في بناء ذواتمجتمعية تتقارب، في حدّها الأدنى، مع مقتضيات العقلانية،وتعمل على صناعة “أنا أعلى“ محفِّز على العطاء وترسيخ الحريةالمسؤولة. فالإنسان، في النهاية، يجب أن يكون قادرًا على قول:“أنا أريد“ مع تسويغ عقلاني، و“أنا لا أريد“ على أساس مبرّرفكري واضح.
إن التجارب التاريخية تبرّر هذا الطرح؛ فما يعيشه الفرد منالتزامات وإلزامات وضرورات ليس من اختراعه، بل مصدرهخارجي كما أكّد ديكارت. وهويته ككائن متفوّق على باقيالكائنات تجد جوهرها في قدرته الدائمة على التفكير، ومراجعةتراكماته، والإبداع والاختراع، وصناعة أحداث التاريخ النافعة.
ومن خلال المفارقات الفلسفية، يظل الإنسان ذلك الكائن المتميّزالمثقل بالإلزامات والحتميات المتنوّعة، بما فيها المعطيات الفيزيائيةوالسوسيولوجية والسيكولوجية. فهو يعيش في إطار بحث دائم عنفنّ العيش والحق في الحياة، في سياقات لا تتيح له هوامش حريةكافية لتكثيف إنتاجاته، إلا عبر الشك والتفكير العقلاني المستمر.
لقد اعتبر باروخ سبينوزا أن الحرية المزعومة للفرد تخفياضطراره، فشبّه الإنسان بكرة تتدحرج من جبل وتظنّ نفسهاحرة، رغم أن مسارها محدَّد مسبقًا. فالإحساس بالعطش والبحثعن الماء تحكمه الضرورة، والطفل يولد مضطرًا للارتماء على ثديأمه. بل إن “الأنا الأعلى“ الاجتماعي كثيرًا ما يمنع الفرد منالتصريح بحقائق تخص حياته، إلا إذا كسرت الخمرة قيودهالنفسية أو خضع لتنويم مغناطيسي. ومن هنا، خلص سبينوزاإلى أن منابع الصمود تتجلى في قوة الارتباط بين الفكرة والرغبة.
ونجد صدىً مشابهًا عند سيغموند فرويد، صاحب القولة الشهيرة:“إن لم تختر ما الذي تريده من الحياة، فإن شخصًا آخر سيختارلك ذلك“. فوظيفة الأنا، في رأيه، محصورة في تلبية مطالب “الهو“ضمن حدود ونواهي وإكراهات “الأنا الأعلى“، وهو ما يجعل فكرةالحرية الفردية محلّ إشكال.
إن استحضار مفارقات هذين الفيلسوفين يبرز بما لا يدع مجالًاللشك أهمية بروز مفهوم الدولة كفاعل محوري في صياغةالحقائق النسبية وتجويد أسس العيش المشترك. فالدولة العاقلةوالمفكّرة مسؤولة عن الاستقراء المعرفي المستمر لأحداث التاريخ،وعن استخلاص الدروس المنطقية من الماضي لتهيئة بيئة تدفعالأفراد والجماعات إلى التفكير الخلّاق والإبداعي من أجل توسيعمجالات الحرية والإنتاج. فكما أن منع تساقط الأحجار من القمممسؤولية تقنية وأمنية للدولة، كذلك حماية الفرد من تدحرجاتالإكراهات مسؤولية سياسية وفكرية ومؤسساتية بامتياز.
ويزكّي هذا الطرح جان بول سارتر بقوله: “على المرء أن يظهر قوتهحتى لا يكون مضطرًا لاستعمالها“. فالإنسان، عنده، يتمتع بحريةمطلقة، منفتح على إمكانيات متعدّدة، وهو مسؤول عن تحديدمصيره واختياراته. لكن، أمام هذه الحرية الوجودية، يظل تجاهلالدولة لمعيار الجودة في إنتاج نخبها علامة على جهلها بمقوّماتوجودها واستمرارها. لقد صار إنتاج مصادر القرار والآمرين بالصرف للميزانيات في مختلف مستويات الدولة هاجسًا مقلقًا،نظرًا لما يتطلّبه من قواعد صارمة تضمن نسقًا معياريًا لإنتاجالجودة في السياسات العمومية، بما ينعكس على سعادة المجتمعوتوسيع هامش الحرية والمساواة. أما حين يتجاهل صانعو القرارحقيقة أن وجود الإنسان يسبق ماهيته، فإن النتيجة تكونانسدادًا في الحريات واكتظاظا في السجون، وهو ما يعكسفشل الدولة برمّتها.
وعليه، يمكن القول في خلاصة هذا المقال إن الإنسان يعيش فعلًاتحت وطأة إكراهات وضرورات تتفاقم حدتها بازدياد اختلالاتالدولة وفشلها في انتقاء الفاعلين المؤهلين لتدبير الشأن العام. وفي هذا السياق، أبدع الفيلسوف إيمانويل مونييه مفهوم “الحريةالمشروطة“، مؤكدًا أن إمكانيات تفوّق الشخص بعقله وحدسههائلة، وأن حريتنا هي حرية إنسان “في موقف“. فالحياة، عنده،تراكم أحداث تستدعي التفكير وإبداع المواقف الإيجابية. لكنالخطر الأكبر يكمن في تعطيل التفكير أو انقطاعه، كما حذّرديكارت. أما جون لوك فقد رأى أن الإنسان يولد صفحة بيضاءبدماغ مبرمج جزئيًا، فتتحمل المؤسسات، وفي مقدمتها الأسرةوالمدرسة وعلاقتهما بالدولة، مسؤولية تنشئته على التفكيرالعقلاني، بما يؤسس للحرية والمردودية والحقوق والواجبات.
لقد أقر مونييه بأزمة الإنسان المعاصر وتفاقم الانزلاقات التيتهدد مصيره، ودعا مبكرًا إلى ثورة “شخصية ومجتمعية“ تتجاوزالشموليات، مؤكدًا أن حرية الفرد مشروطة بوعيه لذاته وعلاقتهبالآخرين، وأنها تقتضي الانفتاح على الغير وتحمّل مصائرهم.
إننا اليوم في أمسّ الحاجة إلى “عصر أنوار جديد“، تتكامل فيهحرية الفرد مع مسؤولية الدولة، ويُستعاد فيه المعنى الأصيلللإنسان: كائن عاقل، مبدع، ومصير مشترك.